خزانات المسدس والأقلام.. كلها رصاصبعد إقامة قصيرة في كوبا إثر العودة من زائير اتجه جيفارا إلى بوليفيا
التي اختارها، ربما لأن بها أعلى نسبة من السكان الهنود في القارة.
لم يكن مشروع "تشي" خلق حركة مسلحة بوليفية، بل التحضير لرص صفوف الحركات
التحررية في أمريكا اللاتينية لمجابهة النزعة الأمريكية المستغلة لثروات
دول القارة.
وقد قام "تشي" بقيادة مجموعة من المحاربين لتحقيق هذه الأهداف، وقام أثناء
تلك الفترة الواقعة بين 7 نوفمبر 1966 و7 أكتوبر 1976 بكتابه يوميات
المعركة.
وعن هذه اليوميات يروي فيدل كاسترو: "كانت كتابة اليوميات عادة عند تشي
لازمته منذ أيام ثورة كوبا التي كنا فيها معا، كان يقف وسط الغابات وفي
وقت الراحة ويمسك بالقلم يسجل به ما يرى أنه جدير بالتسجيل، هذه اليوميات
لم تُكتب بقصد النشر، وإنما كُتبت في اللحظات القليلة النادرة التي كان
يستريح فيها وسط كفاح بطولي يفوق طاقة البشر".
اللحظات الأخيرة حيث لا يستسلم أحدفي يوم 8 أكتوبر 1967 وفي أحد وديان بوليفيا الضيقة هاجمت قوات الجيش
البوليفي المكونة من 1500 فرد مجموعة جيفارا المكونة من 16 فردا، وقد ظل
جيفارا ورفاقه يقاتلون 6 ساعات كاملة وهو شيء نادر الحدوث في حرب العصابات
في منطقة صخرية وعرة، تجعل حتى الاتصال بينهم شبه مستحيل.
وقد استمر "تشي" في القتال حتى بعد موت جميع أفراد المجموعة رغم إصابته
بجروح في ساقه إلى أن دُمّرت بندقيته (م-2) وضاع مخزن مسدسه وهو ما يفسر
وقوعه في الأسر حيا.
نُقل "تشي" إلى قرية "لاهيجيراس"، وبقي حيا لمدة 24 ساعة، ورفض أن يتبادل كلمة واحدة مع من أسروه.
وفي مدرسة القرية نفذ ضابط الصف "ماريو تيران" تعليمات ضابطيه: "ميجيل أيوروا" و"أندريس سيلنيش" بإطلاق النار على "تشي".
دخل ماريو عليه مترددا فقال له "تشي": أطلق النار، لا تخف؛ إنك ببساطة
ستقتل مجرد رجل، ولكنه تراجع، ثم عاد مرة أخرى بعد أن كرر الضابطان
الأوامر له فأخذ يطلق الرصاص من أعلى إلى أسفل تحت الخصر حيث كانت الأوامر
واضحة بعدم توجيه النيران إلى القلب أو الرأس حتى تطول فترة احتضاره، إلى
أن قام رقيب ثمل بإطلاق رصاصه من مسدسه في الجانب الأيسر فأنهى حياته.
وقد رفضت السلطات البوليفية تسليم جثته لأخيه أو حتى تعريف أحد بمكانه أو بمقبرته حتى لا تكون مزارا للثوار من كل أنحاء العالم.
كيف رأوه؟ لقد اعتبر "جان بول سارتر" و"سيمون دي بيفوار" جيفارا التجسيد الحي
لعالمهم المثالي الذي لم يكن له وجود سوى في أفكارهم الفلسفية فقط. ويراه
اليساريون صفحة ناصعة في تاريخهم المليء بالانكسارات والأخطاء، وأسطورة لا
يمكن تكرارها على مستوى العمل السياسي العسكري، وهذا ما تؤيده مقولته
الرائعة لكل مناضل ومؤمن بمبدأ على اختلاف اتجاهه"لا يستطيع المرء أن يكون
متأكدا من أن هنالك شيئا يعيش من أجله إلا إذا كان مستعدا للموت في
سبيله".
وفي عام 1998 وبعد مرور 30 عاما على رحيله انتشرت في العالم كله حمّى
جيفارا؛ حيث البحث الدءوب عن مقبرته، وطباعة صوره على الملابس والأدوات
ودراسة سيرته وصدور الكتب عنه.
علامات استفهام مات جيفارا الطبيب والشاعر، عازف الجيتار والثائر والمصور الفوتوغرافي،
وصائد الفراشات.. وترك خلفه أسئلة عديدة، يرى الكثيرون أنها لن يجاب عنها
بسهولة قريبا، فلم يحسم حتى الآن أمر الوشاية بـ"تشي"، فهل كان الرسام
المتهم منذ أكثر من 30 سنة "بوستوس" الذي عاش منفيا في السويد، أم "دوبري"
المفكر اليساري.. لا أحد يعرف. كما أنه لا أحد يعرف أين قبر "تشي" الحقيقي
حتى وإن زعم البعض اكتشافه.. ولكن الحقيقة التي تظل ماثلة هي أن الجسد
الذي لم ينهكه الربو اغتالته الديكتاتورية، ولكن بلا شك فشل الجميع في
هزيمة روحه.
نشر فليكس رودريجيس، العميل السابق لجهاز المخابرات
الأميركية (CIA) من طريق الشبكة العنكبوتية صوراً لا سابق لها عن إعدام
تشي جيفارا. وتمثل هذه الصور آخر لحظات حياة هذا الثوري الأرجنتيني قبل
إعدامه بالرصاص ب"لا هيغويرا" في غابة "فالي غراندي" ببوليفيا، في 9
أكتوبر(تشرين الأول) من عام 1967.
وتظهر الصور كيفية أسر تشي جيفارا، واستلقائه على الأرض، وعيناه شبه
المغلقتان ووجهه المورم والأرض الملطخة بدمه بعد إعدامه. كما تنهي الصور
كل الإشاعات حول مقتل تشي جيفارا أثناء معارك طاحنة مع الجيش البوليفي.
وقبيل عدة شهور، كشف السيد فليكس رودريجيس النقاب عن أن أيدي تشي جيفارا بُترت من أجل التعرٌف على بصمات أيديه.
صورة رقم (1)
صورة رقم (2)
صورة رقم (3)
صورة رقم (4)
صورة رقم (5)
بين الرموز تحيا الأمبين عبد الناصر وجيفارا.. عمر من الأمل
كيف تتكون الرموز في وجدان الشعوب؟ وهل التعلق
بالرموز يقتصر على شعوب المتوسط المشهورة بحرارة العاطفة، أم ينسحب على كل
شعوب الأرض؟ وما الذي يضمن للرمز بقاءه رغم مرور السنين؟ بين رمزين من
رموز الحرية
والكرامة في الوجدان الإنساني، هما جمال عبد الناصر وتشي جيفارا، نحاول أن نجيب عن هذه الأسئلة قدر الإمكان..
[center]كلمة (الرمز) في اللغة تعني " الإشارة والإيماء سواء
بالشفتين أو الحاجب "، والكلمة – بهذا المعنى – بعيدة كل البعد عن المعنى
الذي اعتدنا استعماله للدلالة على (القدوة) و(المثل) في حياتنا، والحقيقة
أن تكوين الرموز وتمثلها لا يقتصران فقط على شعوب المتوسط، بل يمتدان إلى
الوجدان الإنساني أينما كان، وإن كانت تلك الحقيقة لا تنفي – أبدًا – قدم
الرموز في الثقافة الشرقية، بدءًا بالرموز الوثنية التي ابتدعها الإنسان
الشرقي القديم؛ لتحميه مما ظنه قوى شريرة تحاول إيذاءه، مرورًا بتطور
الرموز مع تطور الإنسان عبر العصور؛ لتصبح الرموز سياسية أودينية أوفنية
أو قومية، وانتهاءً بغلبة الرمز الديني في أغلب الأحيان، أو السياسي في
بعضها.
ويرتبط تكوين الرموز ارتباطًا مباشرًا بقيمة أو مبدأ إنساني، أو قوى
خارقة، أو حاجة الناس لتمثل حضور الرمز في لحظةٍ ما، ومن هنا.. تُصنَع
الرموز..
في حي باكوس بمدينة الإسكندرية يبدأ القدر في غزل خيوط أسطورة قائد
كاريزمي، سيملك على البسطاء أحلامهم وقلوبهم، حتى بعد وفاته بعشرات
السنين.. في ذلك الحي الشعبي، وتحديدًا في اليوم الخامس عشر من يناير من
العام ألف وتسعمائة وثماني عشر، وُلد الزعيم جمال عبد الناصر.. يستخدم
المصريون البسطاء كلمة (الزعيم) في الحديث عن عبد الناصر وحده دون غيره
ممن تولوا حكم مصر، ربما لأن تلك الكلمة تعبر عن قربه من أحلامهم البسيطة،
وإحساسه بآلامهم وآمالهم، بعكس كلمة (الرئيس) التي تشعرهم بالبُعد
والرسمية.. تبدو شخصية عبد الناصر محيرة لمن ينظر إليها من زاوية (الرمز)
لا (الإنسان)؛ فقد ظل بعد وفاته رمزًا من رموز الحرية والكرامة، لا في نظر
بعض المصريين فقط، بل في نظر الكثير من العرب أيضًا، رغم التجاوزات التي
حفل بها عصره، ورغم أخطائه التي اعترف هو ببعضها اعترافًا واضحًا صريحًا،
حين أعلن تنحيه عن كافة مهامه الرسمية بعد نكسة يونيو/ حزيران 1967، فما
الأسباب التي جعلت منه ذلك الرمز النقي الذي لم تلوثه السلطة؟
تدور الكاميرا ببطء؛ لتلقي الضوء على زاوية أخرى من الكرة الأرضية.. على
الأرجنتين في العام ألف وتسعمائة وثماني وعشرين، حيث يولد الطبيب الذي ما
عاد طبيبًا.. الثائر الذي ظل ثائرًا حتى بعد موته.. إرنستو تشي جيفارا..
الأرجنتيني الذي آمن إيمانًا مطلقًا بكرامة الإنسان في كل مكان من الأرض،
فتنقل من بلده إلى معظم بلدان أمريكا اللاتينية؛ مدافعًا عن الحرية ضد
القهر والقمع والاحتلال، فشارك فيدل كاسترو في الثورة الكوبية؛ للإطاحة
بحكم الديكتاتور باتيستا، واتجه يقوده إيمانه بالحرية إلى الكونغو
وبوليفيا، ليُقتل هناك برصاص القوات الحكومية البوليفية، وتآمر المخابرات
المركزية الأمريكية، في الثامن من أكتوبر عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين،
ورغم موت جيفارا الجسد، إلا أن جيفارا الروح والرمز ما زالا على قيد
الحياة.. تحول جيفارا – بدوره – إلى رمز من رموز الثورة على الظلم
والاستبداد، وصارت صورته - التي يبدو فيها بنظرة عينيه وشعره ولحيته
والنجمة على قبعته، رمزًا يتمسك به الحالمون بالحرية في كل بقاع الأرض،
فكيف ولماذا خلع الناس على جيفارا ذلك الرمز؟
بين عبد الناصر وجيفارا تدور الأحداث الآن.. في العام ألف وتسعمائة وخمسة
وستين، زار جيفارا مصر، والتقى الرئيس جمال عبد الناصر، وعبّر جيفارا عن
إعجابه بالنموذج الثوري المصري، الداعم لحركات التحرر في القارة السمراء،
وربطت المصادفات بين جيفارا والشعب المصري، فمن المعروف أنه لم يصبح
ثوريًا ويتعرف بشكل حقيقي على مؤلفات ماركس، إلا بعد تخرجه في الجامعة
كطبيب عام 1952، عام الثورة المصرية. ومقتله على يد القوات البوليفية جاء
في عام 1967 عام النكسة المصرية العربية.
لم يكرر جيفارا زيارته لمصر، لكن الأحداث تربط بينه وعبد الناصر بخيوط من
حرير وأحلام وتطلعات للحرية، بعد وفاة الاثنين بأكثر من ثلاثين عامًا.. ظل
عبد الناصر رمزًا للحاكم النقي الذي خرج من السلطة كما دخلها، فردًا من
أفراد الطبقة المتوسطة، لم يحاول استغلال سلطته ليزداد ثراؤه، وظل رمزًا
من رموز الوحدة، نستحضره كلما آلمنا تفككنا العربي الراهن، وظل جيفارا
رمزًا للثور البلورية التي لم تلوثها المناصب السياسية – على كثرتها -
التي تولاها في كوبا، وربما كان ذلك هو الخيط الرفيع الذي يربط بين
الرمزين: النقاء، وكان هذا أيضًا هو السبب في صمود الرمزين كل هذه السنين
في ضمائر البشر.